خلال زيارتي للعاصمة البريطانية لندن، منتصف العام 2022، طلب أحد أبرز الصحافيين البريطانيين باهتمام إجراء مقابلة صحفية معي، واتفقنا على موعد ومكان المُقابلة، وبدأنا مُقابلة طويلة، حول الوضع في اليمن، من منظور مُشتغل بمجال حقوق الإنسان، وكانت مُقابلة حيوية، أظهرت خبرة ومعرفة واسعة يتمتع بها الصحفي الذي عمل على تغطية الكثير من الأزمات حول العالم.
وفي ختام المُقابلة الطويلة سألني الصحفي: ما موقفك كمُشتغل في مجال حقوق الإنسان بمطالب إنفصال جنوب اليمن؟، أجبت: أنا مُدرك للمظالم التي طالت عشرات الآلاف من الجنوبيات والجنوبيين، والتي يتوجب الإعتراف بها وجبر ضرر ضحايا وخلق ضمانات تمنع تكرارها، وأنا أُحب أن أرى بلدي موحداً وحدة تُمثل إرادة الناس في مختلف المناطق، في ظل نظام ديموقراطي يقوم على أساس المواطنة المتساوية وسيادة القانون، وعلى مباديء الحُكم الرشيد والإدارة الجيدة.
أعاد الصحفي طرح السؤال بنبرة مُنفعلة مُغايرة كلياً للجو الذي ساد كل ما سبق من الحوار: كيف يمكن أن تكون مُدافع بارز عن حقوق الإنسان، وترفض حق تقرير المصير للجنوب؟، أجبت بنبرة متناسبة مع إنفعاله: مبدأ حق تقرير المصير يتضمن ضمان حق الناس في اختيار الوحدة، إذا ما كانت مساراً أفضل لتحقيق مصالحهم وقوتهم بتكامل المقومات والمميزات الجيوسياسية العديدة لبلدهم، وأنا مع فتح حوار جدي مع كل القوى والأصوات في جنوب اليمن، وشخصياً قناعتي مع استعادة الشراكة الواسعة مع مُختلف القوى والمكونات والفئات من أجل تصورات بناء يمن ديموقراطي حديث، بعد معالجة كافة ملفات ومظالم المراحل الماضية، قاطعني بانفعال أكبر: أنا لا أفهم كيف تكون مدافع عن حقوق الإنسان يحظى بسمعة دولية وأنت لست مع حق تقرير المصير في الجنوب؟، قاطعته: دعني أحاول شرح فكرتي لك بطريقة أُخرى: هنا في بريطانيا، الوضع مُستقر، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واجتماعياً، وليس هناك أفواه بنادق جاهزة لفرض أي خيار بالقوة، وتمتلكون قاعدة بيانات ووثائق ثبوتية دقيقة للناس في مختلف أنحاء بريطانيا، وهناك سجل انتخابي وآليات استفتاء وفرز لا أحد يطعن في دقتها ونزاهتها، وآليات رقابة وصحافة حُرة، إذا فالأولى أن نبدأ بتنفيذ "حق تقرير المصير" ابتداءً من منح إيرلندا الشمالية وويلز، وغيرها، حق تقرير المصير، على الفور، قاطعني بالقول: هذه ليست مُقارنة صحيحة، الوضع في اليمن مُختلف عن بريطانيا، قاطعته بدوري: إذاً، بما أنك ترفض مُجرد التفكير بتمزيق بلدك، لنذهب بعيداً عن بريطانيا المُختلفة، لنُدقق في طابور طويل من البلدان التي يتوجب البدء بمنحها حق تقرير المصير، كفلسطين، على سبيل المثال، ظهر الامتعاض على ملامح الصحفي، فأدركت أنه لا يُحبذ استدعاء فلسطين كنموذج، فاستدركت: أو دعنا نتحدث عن برشلونة وكاليفورنيا، فالأوضاع المستقرة هناك تتيح مباشرة آليات قياس الاختيار الحُر للناس لتقرير مصيرهم واختيار أطرهم السياسية، وتكون نتائجها شفافة ونزيهة ودقيقة، أما بلداننا التي دُفعت عنوة إلى أتون أوضاع غير طبيعية، فأي مقامرة في هذا المسار الخطير محض إكراه وقسر وتزوير غير أخلاقي ولا قانونيّ ولا مشروع.
وفي جو مشحون كان آخر ما قلته:
إن تجارب كثيرٍ من المجتمعات التي طالتها مخططات التقويض والتفتيت لخدمة مصالح فاعلين خارجيين، الذين عمدوا إلى إعادة رسم الخرائط، وهندسة الحروب، وتغذية الإنقسامات، واستغلال الإشكالات والأزمات الداخلية، ضدًّا على مصالح مجتمعاتها، فإنها لا بد وأن تستفيق يوماً، وتُدرك أنّ الجِنان الموعودة، المربوطة بشروط بعث الهويات الما دون وطنية، مُجرد رؤوس سنارات مُطعمة بالأوهام لاستدراج المجتمعات إلى فخاخ تدفعها قسراً إلى مستويات جديدة من التشرذم وعدم الاستقرار والاحتراب، لمصادرة قرارها ومجالها وثرواتها ومصالحها.
توادعنا بغير الطريقة الودودة التي تقابلنا بها ابتداءً، وخلافاً للحماس الذي صاحب الأغلب الأعم من وقت المقابلة، ولم يرى ذلك الحوار النور حتى اليوم.
*المقال من حائط صفحة الاستاذ عبدالرشيد الفقيه في "الفيسبوك".